من وحي المقهى(شجار على علو 12 كيلومترا)

استرعى انتباهي حديث صاخب باللهجة السورية بين مجموعة من الشبان. أكبرهم سنا في تقديري لا يتجاوز الخامسة والثلاثين، وأحدثهم ربما في الثامنة عشرة من العمر. يصرخ أحدهم:"متى يحمع الله الشمل؟". أخرج قنينة ماء من حقيبتي وأعبُّ ما فيها دفعة واحدة. درجة الحرارة تناطح الأربعين، والوقت تجاوز منتصف الليل قليلا.

أرتشف من كأس قهوة صنعت على عجل، ثم أسافر بخيالي مع هؤلاء الشبان السوريين. فقبل سبعة أعوام لم يكن أحدهم يفكر في السودان ولا في السفر العيش في الخرطوم. كل شيء تغير في هذه الفترة القصيرة. أحدثهم سنا وكان يرتدي "دشداشة" ويتحدث بلهجة دير الزور، كان لا يزال يافعا حينما بدأ الحراك ثم الحرب في سورية.

أشعر بالملل. تخبرني موظفة بالمطار أن طائرتي المتوجهة إلى اسطنبول ستتأخر.

يا له من حظ تعس!. أستعيذ بالله وأقول لِمَ العجلة يا صاح!.

أسترخي بجانب حقيبتي وأرفع عيني نحو السماء. القمر يكتمل بدرا. ضوءه الفضي يلمع. فوق سطح أحد مباني مطار الخرطوم ينير مصباح وحيد. تحلق حوله بضع فراشات.

يا لها من مخلوقات عجيبة. تظل تحوم إلى أن تلقى حتفها. لكن أليست هذه الحشرة هي سبب الكثير من المآسي؟؟. طبعا لا. لكن ثمة  "نظرية تأثير الفراش the butterfly effect" ترى أن هذا المخلوق الواهن قد يكون حاسما في حدوث تغييرات عميقة. تقول النظرية إن فراشة تحلق فوق ورقة غصن صغير في الصين فتحركه، تلي ذلك حركة في أغصان اخرى فتتحرك الاشجار إلى أن تتحول الى عاصفة ستتطور مع مرور الزمن الى اعصار يصل إلى أمريكا.

أعود إلى الشبان السوريين. هاهم يتجاذبون أطراف الحديث عما سيفعلونه لما يعودون إلى سورية. لم يكن هؤلاء يقدرون أن خروج الناس عام 2011 في مظاهرات، سيتطور إلى مقتل الطفل حمزة الخطيب في محافظة درعا، ثم سيتأجج الوضع ليتحول الى اشتباكات مسلحة، ثم سيتدخل الطيران الحربي، فيقصف، وينقسم المجتمع بين موال لنظام بشار الأسد ورافض له. سيظهر الجيش الحر والنصرة وداعش وسيتدخل حزب الله وايران لنصرة الاسد، وسينزل بوتين بكل ثقله. ستدمر الأحياء والمدن والمحافظات وسيزحف تنظيم داعش على العراق وسيظهر أكراد سورية ويسعون لاقامة حكم ذاتي، وربما اقامة دولة في المناطق التي يسيطرون عليها.

 سينزح الملايين من مناطقهم ثم يفرون الى بلدان الجوار، ومن ثمة تبدأ موجة لجوء دولية نحو أوروبا وافريقيا يعزز صفوفها أفغان وأكراد واثيوبيون واريتريون، بل وحتى سودانيون.

يخفت حديث الشبان السوريين من حولي في مطار الخرطوم. لقد بدأوا في الدخول الى بهو المطار للشروع في اجراءات التسجيل والتفتيش.

 يتبادلون العناق، فيدخل فريق، ويبقى فريق آخر وعلامات الحسرة بادية على وجوههم. إنهم جاءوا فقط لتوديع أصدقائهم. يجرجر الشاب الأصغر سنا نعله الجلدي محدثا صوتا كالشخير، ثم ينصرف مع رفيق له.

أنظر الى الساعة في شاشة الهاتف، فإذا بها تتجاوز الثانية فجرا. الناس منهمكون في التقاط صور "سيلفي"، هذا أقصى ما يستطيعون فعله، لأن شبكة الانترنت مقطوعة منذ الثالث من يونيو الجاري. اي بعد ساعات فقط من فض مكان الاعتصام وما تخلله من قتل وجرح وسحل.

أسأل مواطنا سودانيا أن يحرس أمتعتي معه، ثم أذهب إلى مكتب الخدمات. أطل عبر الشباك الضيق. داخل غرفة فسيحة تجلس أربع موظفات، أسأل إحداهن فتجيب زميلتها:"لقد عادت الطائرة التي ستنقلكم الى اسطنبول بعد اقلاعها بخمسين دقيقة".

- أتعلمين متى يمكنها أن تصل؟.

- لا أستطيع تقديم أي جواب يا سيدي.

تقول هذا بلغة انجليزية ممهورة باللكنة المحلية.

أعود إلى أمتعتي. لا زالت في مكانها، فهنا في السودان قلما تجد من يسرق أو يختلس متاع الغير.

أبدأ الحديث مع شاب تركي يعمل في قطاع النفط ببورتسودان، فيخبرني بأنه علم من قريب له في تركيا أن طائرتنا شهدت تلاسنا بين اثنين من الركاب، ثم تطور الشجار الى اشتباك بالأيدي، فاضطر قائد الطائرة إلى العودة إلى مطار اسطنبول الدولي الجديد.

ينضم للحديث شخص ثالث، فيؤكد أن أحد المشتبكين لقي حتفه في الجو. لا آخذ هذه المعلومة الأخيرة على محمل الجد.

أتذكر مشهدا مماثلا حدث صيف عام 2008 في مطار كييف. كنت أنتظر الطائرة لنقلي إلى تبيليسي عاصمة جورجيا. سمعت جلبة بين شبان شاميين. كان الحديث بصوت مرتفع كعادة الكثير من العرب. وفجأة رأيت مسؤولين من المطار يركضون. لحقت بهم، فإذا بي أرى على الأرض شابا مفتول العضلات واضعا وشما على أحد ذراعيه وهو ملقى على ظهره. وجهه كان شاحبا وعيناه شاخصتان. حاول متدخلون انعاشه عبر دفع صدره وبث الاوكسيجين في فمه، لكن... هيهات. بجانبه يصرخ أحد مرافقيه في الهاتف المحمول ويقول: لقد مات!.

في مطار الخرطوم أظل أنتظر حتى الرابعة فجرا. أخيرا ينادى على الركاب المتجهين مع "التركية".  من هنا تبدأ معاناة جديدة. فوضى أمام مكاتب التسجيل. التدافع والصراخ. يأتي دور  شرطة الجوازات. يأمرني الضابط بالتوجه الى احد المكاتب للتحقق من وثائقي،  أعود إليه فيأمرني دون النظر الى وجهي بالذهاب الى ضابط آخر للتأشير على جوازي، ثم اعود اليه فإذا بمواطنة اريترية تعلق الصليب على صدرها وصدر ابنها تطلب مني السماح لها بأن تسبقني. كانت تحمل وثيقة سفر لاجئين سلمتها لها ألمانيا.

بعد لأي أستطيع الدخول الى صالة المسافرين. يستمر الانتظار حتى السابعة صباحا، ثم أخيرا تحط "التركية" في المطار.   لقد بدأت حركة السيارات تدب في الشوارع المجاورة شبه المقفرة. الناس هنا لا يستيقظون باكرا.

في المطار تقف طائرات سوفيتية قديمة، شكلها يحيل على زمن الحرب الباردة.

لقد بدأ جفناي يلتصقان. أجلس في مقعدي، أخيرا تتحرك "التركية"، ثم تقلع وتحلق، هاهي ذي الخرطوم وأم درمان وبحري تحتنا. يا له من منظر عظيم للنيل وهو يجمع ما بين "الأزرق" و"الأبيض".

أغمض عيني... أشعر باهتزاز شديد. يوقظني صوت المضيفة التركية وهي تطلب مني ازالة ستار النافذة. الغيوم تحيط بنا من كل جانب. ثم أخيرا تظهر اسطنبول... مضيق البوسفور، المآذن العثمانية، البيوت المسقوفة بالقرميد الأحمر.

لقد فات الوقت وأقلعت الطائرة الثانية التي كانت ستنقلني.

علي أن أنتظر سبع ساعات أُخَر.

كل هذا من فعل شخصين تشاجرا على متن الطائرة التي كنت سأسافر على متنها بعد منتصف الليل بنصف ساعة.

ولست الوحيد، فمعي أكثر من مائة وخمسين مسافرا ضاعت رحلاتهم. بعضهم يقصد أمريكا، وآخرون سيتفرقون أشتاتا في بلدان أوروبا.

سبع ساعات من الانتظار الممل.

إنه "تأثير الفراشة".

مقالات الكاتب

وتلك الأيام نداولها

انتابني شعور صامت بالحزن وأنا أقترب من طائرة فخمة كانت رابضة بالمطار وتحيط بها رائحة الدخان. شجعني...

الحقد في زمن الكورونا

بدأ  في وسائط التواصل الاجتماعي ما يشبه تيارا يبرر التخلي عن كبار السن المصابين بفيروس كورونا،...