الحياة الصوفية وتجربة الكتابة


     للكتابة الصوفية منطق مغاير للمألوف من الكتابات المتداولة بين المبدعين والقراء، فالمتصوف المبدع له وضع خاص، ليس على مستوى مظاهر الحياة اليومية حيث الترفع عن بعض المباحات، وإنما كذلك على مستوى التعبير عن طبيعة تلك الحياة وأشكالها المختلفة، حيث يكون للصوفي وضع "خاص" مخالف للمتعارف عليه؛ يتسم بالقطع مع كل ما هو دنيوي زائل، فلا تصرف له في الأشياء، وإنما هو مستقبل للأنوار والتجليات، منسجم مع حركة الكون في الخضوع للخالق، فلا يكتب غير ما يُطلب منه، وما يتجلى في قلبه من حقائق وأذواق. مما فتح هذا النوع من الكتابات على جماليات متفردة، ظلت تمارس سحرها على القارئ، وتثير عددا من القضايا والإشكالات.


   إذا كان الأديب مَصدرا لإبداعه، فالصوفي ليس كذلك، وإنما هو ناقلٌ للمعرفة، مُعَبِّرٌ عن المعاني، وعَبْرَهُ ينتقل المقدس ليُطَهِّر المدنس، فرسالة المتصوف كما يحاول إقناعنا بها هي إنقاذ العالم، عبر لفت انتباه الخلق لكلام الخالق، فهو يقوم بتبليغ الرسالة كما أُلهمها من قبل الله، ولذلك سميت الكتابة "كتابة" من باب المجاز، وإلا فهي على الحقيقة ضربٌ من الإلهام والفيض والفتح.


      ثمة علاقة جدلية بين الإلهام والكتابات الصوفية، فهو ينمو بنموها، ويخفت بريقه بأفول شمسها، ذلك أن الإلهام مادة هذا النوع من الكتابات؛ مثلما أن الحجر مادة النحت، والأصوات مادة الموسيقى، والألوان مادة الرسم، غير أن الإلهام ليس مجرد مادة هامدة كالحجر، وإنما هو حيُّ مثل الماء؛ يأخذ شكل الإناء الذي يوضع فيه، فهو يتفاعل مع متلقيه/الصوفي، ولا يظل جامدا كالحجر، لأنه مشحون بما يشغل ذهن الإنسان وفكره، ويوجه مسار حياته صوب العلوي والقدسي، ليصبح الإلهام مصدرا للكتابة والإبداع الصوفيين، وبدل أن يكتب الصوفي تجربته، يحدث العكس، فتصير الكتابة الصوفية هي من تكتب الصوفي وتنفخ فيه من إلهامها، وكأن وجود الكتابة أسبق من الكاتب، حيث خلود النص في الأزل، ونزوله في لحظات الفيض، ليكون علامة على الجمال الأبدي لمبدع الكون، وشتان بين من تكتبه وبين من يكتبك ويصنعك.