صحفي عدني يروي قصة غريبة حدثت معه بمصر.. ماذا قال؟

عدن(كريتر سكاي)خاص

كتب: أنيس البارق

انحنيت لألتقط ظرفاً كبيراً سقط أمامي فجأة، وأنا أسير في شارع عبد الخالق ثروت بوسط البلد، لكن الرجل الخمسيني الذي يسير إلى جانبي سبقني بحركة مباغتة لا تتناسب أبداً مع سنه.


يبدو الظرف ممتلئاً بالنقود.. أما صاحبه الذي أوقعه فإنه يسير دون دراية.. صرخت "يا أستاذ.. لو سمحت".. قال لي الرجل الذي التقط الظرف ووضعه تحت إبطه: استنى!، ولم أكن قد فهمت حينها ما الذي يريد أن يفعله بهذا الظرف المتخم بالدولارات كما يبدو من أحد أطرافه المفتوحة التي تنبثق منها أوراق خضراء، إنها دولارات كثيرة، مئات وربما آلاف الدولارات ملفوفة بورق أبيض مشدود بالأستك.. إنها غنيمة مكتملة الأركان.


وقف صاحب الظرف أخيراً، يتحسس جيوب المعطف الأسود الذي يرتديه.. نحن الآن ثلاثة.. نقف في شارع مزدحم، قرابة السابعة مساءً، إحدى أوقات الذروة في مدينة القاهرة المزدحمة دائماً، صاحب الظرف الجديد، في الخمسينات، ذو شارب كبير، يضع نظارة طبية، ويرتدي ملابس خريفية، كنزة حمراء، وقميصاً أبيضاً أو وردياً أسفل الكنزة، وفي مواجهته صاحب الظرف الأصلي، رجل كهل، نحيف جداً، حليق اللحية والشارب، يرتدي ملابس ربيعية، بنطلون أسود، وقميص ومعطف أسودان، شاحب الوجه بعينين زائغتين، يقف بالكاد على قدميه ويتحدث بصوت عميق، وأنا بينهما، أرتدي ملابس شتوية بعد أن اغتصب الزكام أنفي أسبوعاً كاملاً، ونخرت أعراض البرد عظام جسدي، ولم يكن ينقصنا سوى شخص رابع يمثل فصل الصيف، لتكتمل سيمفونية الفصول الأربعة.


ودار بين الرجلين الحوار التالي:


- انت وقعت حاجة؟

- أيوة ظرف فيه تمنطعشر ألف وخمسمية دولار.....

- جبت الفلوس دي منين؟

- جبتها من الخمارات.. أنا عندي خمارات.. 

- طب شايف الشب اللي لابس قميص أبيض هناك، الظرف معاه واحنا ممكن نجيبهولك بس تدينا عشرة في المية من الفلوس..

- ك*م الفلوس على ك**كم.. أنا عندي أربع خمارات، وهصرف الفلوس دي على نسوان.. 

- احنا هنجيب لك الفلوس بس حتدينا كام؟ 

- ك**كم على ك*م الفلوس.. الفلوس دي على زو**ي.. أنا أجيب زيهم عشر مرات ومدفعش جنيه واحد..


وكان الرجل صارماً ويتحدث بثقة، ثم أطلق لساقيه الريح ومضى مكملاً طريقه، وكنت قد دخلت في صدمة من هول ما يحدث، وكيف يمكن لشخص أن يتخلى ببساطة عن مبلغ كهذا، حتى وإن كان مصدره الخمارات، كما يقول، ثم إنني لم أكن أرغب في شيء من العشرة في المائة التي طلبها الرجل الذي يقف إلى يساري، لكنه شيء متعارف عليه، وهو لم يأخذ النقود ويهرب، كان بإمكانه أن يمضي في حال سبيله هو أيضاً، لكنه لم يفعلها، ثم دخلت في دوامة أخرى من الأسئلة عن سيناريو النهاية لجولة المفاوضات الفاشلة.


وركضت خلف صاحب الظرف أناديه "يا أستاذ.. يا حضرة"، وتوقف الرجل، وأخبرته "فلوسك مع الراجل ده"، وطلبت من صاحب الكنزة الحمراء "إدي له الفلوس لو سمحت"، ودار الحوار نفسه، وكرر الرجل شتائمه لنا للمرة الثانية، ومضى، بوجهه الشاحب وعينيه الزائغتين اللتين لم تلتقيا بأعيننا، إنه يتحدث وهو ينظر إلى اللا شيء، كالأعمى تماماً، وركضت خلفه، للمرة الثالثة، لكن الرجل الذي إلى يساري كان لديه مقترح جديد هذه المرة.


- سيبك منه، دي فلوس جايبها من خمارات وهيصرفها على نسوان، ناخد احنا الفلوس ونقسمها بينا احنا الاتنين.

- انت بتقول إيه هتاخد فلوس مش فلوسك، احنا ملناش دعوة جابها منين وهيصرفها إزاي، دي فلوسه مش فلوسك.


وسارعت الخطى خلف #صاحب_الخمارات_الأربع.. وأنا أقبض بيساري على الذراع الأيمن للرجل الذي يقبض بيساره على الظرف ذي الثمانية عشر ألف دولار وخمسمائة فصرخ في وجهي (انت بتشدني كده ليه، متشدنيش)، وحينها كان "#صاحب_الخمارات_الأربعة" يحاول المرور إلى الضفة الأخرى من شارع طلعت حرب، وأدركناه أخيراً.


وتكرر مشهد الشتائم للمرة الثالثة، وطلبت منه أن لا يشتم، واستغربت أن يصر على هذه الشتائم، بينما أنا أحاول إرجاع أمواله إليه، بل إن الرجل الذي إلى جانبي هو أيضاً يحاول حتى اللحظة إرجاع الظرف لمالكه، لكنه يريد نصيبه منه، وأنا لا أريد شيئاً، وأخبرته أننا نحاول إعادة نقوده إليه فلماذا هذه الشتائم؟.


وحدثت محاولة أخيرة بين الرجلين لإتمام صفقة من نوع ما، مدفوعة برغبة جامحة من #صاحب_الكنزة_الحمراء للظفر بشيء من هذه الثروة.. إنها ثروة بالمعنى الحرفي للكلمة.. ويمكنك بهذا المبلغ شراء سيارة مستعملة صغيرة، وشقة "محندقة" في ضواحي القاهرة أو في إحدى مناطقها الشعبية، لكن صاحب الخمارات يرفض أن يرضخ لشيء من هذا الابتزاز كما يبدو من وجهة نظره، وهي حالة غريبة تقود المرء أحياناً للتضحية بالكثير مادياً مقابل شيء معنوي ربما لا يشعر بقيمته إلا المرء نفسه!.


وانتهت المحاولة الأخيرة بالفشل أيضاً، وعاد الظرف لمالكه الأصلي، ونصحته أن يضعه في جيب آخر غير جيب المعطف الذي كان يريد أن يضعه فيه للمرة الثانية، وابتسم الرجل ذو الوجه الشاحب لأول مرة، وبدت ابتسامته باهتة.. أو طفولية.. لا أدري.. ثم تفرقنا!.